تأثير الهجرة الأندلسية على أهل فاس.

عرفت العديد من المدن بالمغرب تأثيرات أندلسية عديدة في عدة ميادين و مجالات سواء على الصعيد الاجتماعي، الاقتصادي أو الحضاري، لكن مدينة فاس تميزت بالأخص بتغلغل التأثيرات الأندلسية بها حتى أصبحت كلمة (اندلسي) تدل – بشكل من الأشكال- إلى كلمة (فاسي). وأول هجرة أندلسية من حيث الأهمية الى مدينة فاس كانت هجرة (الربيضيين) من قرطبة، حيث استقروا بالعدوة التي تحمل اسمهم (عدوة الأندلسيين)، وذلك في عهد ادريس الثاني، و ترجع الى ظروف داخلية تتعلق أساسا بالأندلس ذاتها1. ويذكر ابن ابي زرع أن عدد الذين استقر منهم بفاس بلغ 8000 آلاف بيت2. و يضيف قائلا: … فنزلوا عدوة الأندلس و شرعوا في البناء يمينا و شمالا الى ناحية الكدان، و مصمودة، و فوارة، و حارة البادية، و الكنيف إلى الرميلة، فسميت عدوة الأندلس…3. و سيكون لهذا الاستقرار و المقام أبعاده السياسية و الحضارية و الدينية و العلمية الشأن الكبير:
على الصعيد السياسي: ظهرت غير ما مرة نزعة هذا الثائر الأندلسي أو ذاك للسيطرة، أو على الأقل لترجيح كفة هذا أو ذاك، خاصة أن الأدارسة سيدخلون في صراع مرير مع الأندلس حينها.
و نستطيع – مثلا – أن نخرج بعدة ملاحظات عن ثورة الأندلسي عبد الرزاق الخارجي على الأمير الادريسي علي بن عمر بن ادريس:
كان طموح الثائر الأندلسي بعيدا، فقد ذهب الى حد تسمية قلعة بناها بالمغرب باسم بلده الأصلي بالأندلس (وشقة)4.
حين انتصر الثائر الأندلسي على الأمير الأندلسي ملك عدوة الأندلس بفاس و خطب له بها بدون أية صعوبة، في حين امتنعت عدوة القرويين5، مما يدل عل أن الكيان الأندلسي كان مميزا بالفعل.
عند استرجاع الأمير الادريسي لقواه و هزمه للثائر الأندلسي، ولى الأمير على عدوة الأندلس بفاس (ربضيا) من شذونة بالأندلس، و ظلت الولاية في أبنائه الربضيين6، و هذا يدل على أن الجالية الربضية بعدوة الأندلس بفاس، كانت حريصة على خلق نوع من التوازن في علاقاتها مع الادارسة كانوا يعملون بالفعل قوة و تماسك الجالية الأندلسية بالمنطقة، فكانوا يخاطبونهم من خلال مواطنيهم.
كما نعتقد-أيضا- ان حكام الأندلس كانوا يجدون سهولة أكبر للتعرف على أحوال المغرب بفعل وجود هذه الجالية، بل و استخدامها لتحقيق طموحها بالمغرب، فقد ساعدت هذه الجالية-مثلا- عبد الرحمان الناصر في التأثير على موسى بن أبي العافية للدخول في طاعة الأمير الأندلسي7. و فعلا فقد تمكن الناصر من وضع قدمه بالمغرب، و هذا ما يشير إليه ابن حبان قائلا:…فتمكنت بذلك قدم الناصر لدين الله فيما حازه من مدينة سبتة و القطعة استضمها إليها من أرض العدوة، و اجتذب من أجله كثيرا من فرسان البربر و حماة رجاله إلى حضرته، استعان بهم في حروبه، و تمكن بذلك من ارتياد عتاق الخيل بوادي البربر و استنتاجهم الفاضل لبراذين الأندلس…8.
على الصعيد الحضاري: احتضنت عدوة الأندلس بفاس الأولى عددا من المزارعين المهرة، إذ يذكر ابن ابي زرع في هذا الصدد:…و تختص عدوة الأندلس أيضا يحسن الفواكه الصيفية كالتفاح الطرابلسي الحلو الأصفر الذي ليس مثله في جميع المغرب لحسنه و حلاوته… و التفاح الليوبي و الطلعي و الكلغين و إضاف الكمثرى و المشمش و البرقوق و التوت…9. و يبدو أن هذا هو السبب الذي جعل ادريس الثاني يفضل عدوة فاس لتربية دوابه و ماشيته:…و انزل جميع أجناده و قواده بعدوة الأندلس، و جعل كسبه من الخيل و الابل و البقر و الغنم بأيدي ثقاته…10.
و في الميدان العلمي: نذكر جامع الأندلس، إذ ساهم أندلسيو فاس في بنائه ليصبح منارة علم بالمدينة الى جانب جامع القرويين11.
و في الميدان الديني: اقتدى المغرب بقرطبة في تنيه للمذهب المالكي، و ترسخت جذوره إلى الحد الذي جعل الراعي الأندلسي يصرح:…ليس في بلاد المغرب كلها- سودها و بيضها- شافعي ولا حنفي ولا حنبلي، بل كلهم على مذهب مالك، لا يشارك في ذلك، و لم يظهر احد من أهل البدع و لا من الخوارج في المغرب12.
وقد تواصل المد الحضاري الأندلسي في العهدين المرابطي و الموحدي، وذلك بفعل الندماج الذي وقع بين الأندلس و المغرب خلال هذه الفترة.
و هكذا فقد توافد عدد كبير من الحرفيين و الصناع الأندلسيين إلى مدينة فاس، خاصة في ميدان الدباغة*دباغة الجلود*، و تصفية قصب السكر، و صناعة الخزف، و ايضا في ميدان البناء و المهمات و نشير إلى أن يوسف ابن تاشفين استقدم عددا من الصناع من قرطبة غلى مدينة فاس للزيارة في مساجدها و سقاياتها و حماماتها و خاناتها13.
كما تشير إلى ذلك الموسيقى الأندلسية التي تسربت في هذا العصر الى المغرب، اذ انتقلت اليه شخصيات مرموقة في هذا الميدان، عملت على نشرها في مدن مغربية عديدة من ضمنها مدينة فاس14.

و تعزز التأثير الحضاري الأندلسي بفاس خلال العصر المريني و ذلك بعل انتقال العاصمة الى المدينة و استقدام السلاطين المرينيين لعدد من رجالات الفكر و السياسة من الأندلس. نشير في هذا الصدد الى استعانة السلطان ابي سالم بابن رضوان المالقي، الذي أصيح من مفاخر المغرب في براعة خطبه، وكثرة علمه، و حسن سمته و اجادته في فقه الوثائق، و البلاغة في الترسيل عن السلطان، و حوك الشعر، و الخطابة على المنابر، لأنه كان كثيرا ما يصلي بالسلطان…15. و قد اقترح عليه مخدومه أن يكتب له رسالة في السياسة و السير السلطانية، فاستجاب له بوضع كتابه المشهور: الشهب اللامعة في سماء الساسة الجامعة16.
هكذا نجد أن أبا سالم عندما شعر أن الدولة المرينية قد دخلت فعلا في دور الانحلال و أحس بالحاجة الى اعادة النظر في الانظمة المرينية التجأ الى ابن رضوان الأندلسي مما يدل على المكانة التي كان يحتلها هؤلاء الاندلسيون في البلاط المريني17.
و هناك أندلسي آخر من أندلسي البلاط المريني اهتم بهذه التنظيمات الحكومية، ذلك أن عليا بن محمد بن مسعود الخزاعي الاندلسي، نزيل فاس، قدم لمخدومه موسى بن ابي عنان سنة 786ه /1384 م كتابه المشهور: تخريج الدلالات السمعية، على ما كان في عهد الرسول من الحرف و الصنائع و العمالات الرعية 18.
و يتحدث ابن خلدون عن اندلسي خدم البلاط المريني قائلا: …و منهم صاحبنا الكاتب القاضي ابو القاسم محمد بن يحيى البرجي، من برجة الاندلس، كان كاتب السلطان ابي عنان و صاحب الانشاد و السر في دولته و كان مختصا به، و اثيرا لديه. و أصله من برجة الأندلس، نشأ بها، و اجتهد في العلم و التحصيل و قرأ و سمع، و تفقه على مشيخة الأندلس، و استبحر في الأدب، و برز في النظم و النثر، و كان لا يحارب في كرم الطباع، و حسن المعشرة، و لين الجانب، لكن هناك أكثر من باحث يسجل جانبا سلبيا لوجود هذه الفئة داخل البلاط المريني، إذ يذكر بعضهم في هذا الصدد: … ومن غير شك فإن هؤلاء الأرستقراطيين النازحين من الأندلس، و من بينهم سياسيون معترفون، قد لعبوا دورا له أهميته في توجيه الأحداث، سواء داخل القصور أو خارجها. لقد حمل هؤلاء معهم، ليس ذكاء الحضري و دهاؤه فحسب، بل الخبرة و الأقران السياسي أيضا، الشيء الذي مكنهم من دور الموجه و لو من وراء الستار. هذا من جهة و من جهة أخرى فإن دخول هؤلاء الارستقراطيين من علماء و سياسيين في بلاد الامراء و السلاطين بالمغرب، جعل منهم حاشية ارستقراطية جرفت معها غلى اسلوب حياتها المعتمد على البذخ و الترف و الاستمتاع بالملذات اولئك الحكام أنفسهم، مما فصلهم عن ذويهم و عشيرتهم. و هذا الانفصال بين الحاكم و قبيلته كان يعني في الواقع انفصال السلطان عن جنده و تنكره للرجال الذين شكلوا اول الامر دعائم ملكه و النتيجة الحتمية لذلك هي ضعف سلطة، و فتح الباب على مصراعيه للمغامرات و المؤامرات…20.

تميزت الفترة الوطاسية و السعدية باستقبال فاس لعدد كبير من الأندلسيين وذلك نتيجة سقوط غرناطة آخر معقل إسلامي بالأندلس و ازدادت بذلك مساهمتهم في الميادين الاقتصادية و الاجتماعية، فنذكر بهذا الصدد مساهمة الأندلسيين في تطوير بعض تقنيات الري بالمغرب. إذ ساهموا في هذا المجال في تركيب عدة نواعير بمدينة فاس21. كما حمل الأندلسيون معهم العديد من الفنون الصناعية بل و طوروها بالمغرب، اذ كانت لهم مناهج خاصة في دباغة الجلود، و صناعة الحرير و الصوف. و قد أشار الحسن الوزان إلى أن تجار الأقمشة الصوفية بفاس كانوا كلهم أندلسيين22. كما أكد مارمول أن لباس سيدات فاس هو تقريبا نفس لباس مورسكيات غرناطة23 . كما نص على أن عددا من الثريات الموجودات ببعض مساجد مدينة فاس، هي من ابداع أندلسي المدينة24. و برع الأندلسيون، أيضا في ميدان الصناعات المعدنية، فقد أكد كل من الحسن الوزان25، و مارمول26 على أنهم كانوا يشرفون على صناعة الأسلحة و الذخيرة لمدينة فاس. و هناك مصادر أخرى تؤيد ما قلناه سابقا. فهذا المغربي –مثلا- يذكر حين حديثه عن آخر ملوك بني الأحمر: و بني بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس، رأيتها و دخلتها…27. و لم يفت أحمد بن المهدي الغزال الأندلسي أن يسجل أثناء زيارته لغرناطة سنة 1766م ما يأتي : هي أقرب شبها بفاس في بنيانها و جريا الأودية بحداراتها، ثم القناطر المضروبة عليها، و ما اشتملت عليه من الديار و الخطط و الزليج و الدرابيز من اللزح المستدير بمساحات الطبقة الثانية المشرفة على صحن الدار و البيوت و الغرف و السقوف و الأبواب، و الكل مشاكل لمدينة فاس…28.
أما في ميدان الخدمات الاجتماعية فنشير بالخصوص الى انتقال خطة الحسبة من الاندلس الى فاس، إذ سجل الحسن الوزان عن الجزارين بهذه المدينة ما يأتي: … قبل ان تحمل الذبائح لابد من عرضها على المحتسب الي يأمر بفحصها و تسليم بطاقة مكتوب عليها السعر الذي يجب ان يباع به الحم، و يلزم الجزارون بلصق هذه البطاقة على اللحم بحيث يتمكن الجميع من رؤيتها و قراءتها…29. و الجدير بالذكر أن خطة الحسبة اتجهت لفترة ما إلى تصرفات بعض افراد الجالية الأندلسية بفاس، اذ اشتهر هؤلاء بالإقبال على اللهو و الطرب، و بالتدخين و شرب الخمر و عدم الالتزام بالواجبات الدينية، و كذا بالاستمرار في التشبث بالعادات الأوروبية التي كانوا عليها بإسبانيا، مثل اختلاط الرجال بالنساء في المحافل العامة. و لم يقتصر الأمر على الأندلسيين، بل انتشر بين صفوف المغاربة أنفسهم. و قد جاء الرد من الأندلسيين أنفسهم، فقد قلد اندلسيو فاس الحاج صالح ولاية الحسبة سنة 1048ه / 1638- 1639م لمعالجة الموقف. و في هذا الصدد يقول القادري: و قلد الأندلسي الحاج صالح ولاية الحسبة، فقطع شراب الدخان، و بيعه، و قطع اللهو و آلات الطرب من النساء، و ألزم الناس الصلوات في الوقت، و الستر في الحمام، و غير مناكر شتى…30
الهوامش:
1- أنظر ابن القوطية/ تاريخ افتتاح الأندلس، ص 50، و ابن عذاري، البيان المغرب، 2: 108، وأ. المقري، نفح الطيب، 1: 322، و السيد عبد العزيز سالم، تأريخ المسلمين و آثارهم في الأندلس، ص 223 .
2- ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 47 .
3- المصدر ذاته، و الصفحة ذاتها.
4- المصدر ذاته، ص 78 .
5- المصدر ذاته، و الصفحة ذاتها.
6- المصدر ذاته، و الصفحة ذاتها.
7- المصدر ذاته، ص 83 – 84 .
8- ابن حيان، المقتبس، 5: 275 .
9- روضة القرطاس، مصدر سبق ذكره، 46 .
10- المصدر ذاته، و الصفحة ذاتها.
11- أنظر علي الجزنائي، زهرة الآس، 92، و روض القرطاس، ص 76-77.
12- انتصار الفقير السالك، لترجيح مذهب الامام مالك، ص 118 .
13- عبد العزيز بنعبد الله، معطيات الحضارة المغربية، 1: 113 .
14- محمد المنوني، تاريخ الموسيقى الأندلسية بالمغرب، مقال، مجلة البحث العلمي، العددان 14 – 15، يناير / دجنبر، 1989، ص 50 .
15- ابن خلدون، التعريف، ص 23 .
16- نشر بالدارالبيضاء سنة 1984 بتحقيق الدكتور علي سامي النشار.
17- طبع بتونس بتحقيق الشيخ معاوية التميمي، و طبع أخيرا بدار الاسلامي ببيروت.
18- ابن خلدون، مصدر سبق ذكره، ص 66 .
19- محمد عابد الجابري، العصبية و الدولة، 33 – 34 و انظر أيضا ما يقوله عبد الله العروي في كتابه: Histoire du Mughreb, 88. 196-197.
20- الحسن الوزان، وصف افريقيا، 1: 220.
21- المصدر ذاته، 1: 191.
22- الوزان، مصدر سبق ذكره، 2: 193 .
23- المصدر ذاته،2، 160.
24- الوزان، مصدر سبق ذكره، 1: 191.
25- المصدر ذاته، 2: 170.
26- المقري، نفح الطيب، 4: 529.
27- أحمد بن مهدي، نتيجة الاجتهاد، 195 .
28- وصف افريقيا، 1: 187 .
29- نشر المثاني، 1: 376.
30- ناصر الدين السعيدوني، الجالية الأندلسية بالجزائر، مقال بمجلة أوراق، مدريد، العدد 4، 1981، ص 121.

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>